إهداء
إلى خطيب
الجمعة، الذي يحمل هذه الأمانة االعظيمة
أمانة هداية
الناس، ودفعهم لما يصلح أخراهم ودنياهم
وتذكيرهم ووعظهم
بما يدافع فعل الشيطان والهوى والفتن في قلوبهم
خطيب الجمعة
الذي جعله الله مفتاحا لنشر التوحيد
وتثبيته في قلوب
الناس
وإعانتهم على
العمل به بقلوبهم وأبدانهم
هذه هديتنا
المتواضعة لك
لعل الله أن
يُشركنا معك في الأجر
ويضاعفه لك
بما قام في قلبك
من صدق للنجاة أنت ومن حولك يوم تلقاه
( 1) اسم الله الملك
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره،
ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل
فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده
ورسوله
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
}
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً }
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } أما بعد :[1]
فإن خيرُ الحديثِ كتابُ اللَّهِ، وخيرُ
الهَديِ هَديُ محمَّدٍ s، وشرُّ الأمورِ محدثاتُها، وَكُلُّ مُحدثةٍ بدعةٌ وَكُلُّ بدعةٍ
ضلالةٌ، وَكُلُّ ضلالةٍ في النَّارِ [2]
يقول الملك سبحانه: يُسَبِّحُ
لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ
الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) [3]
ويقول جل في علاه: هُوَ
اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ
السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ
سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) [4]
ويقول : فَتَعَالَى
اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا
هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) [5]
ويقول : وَلِلَّهِ
مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) [6]
من أسماء الله تعالى التي اختارها لنفسه، لأنها تليق
بكماله وعظمته وحسنه وجلاله، وأخبرنا عنها في كتابه وسنة نبيه s اسم "الملك".
ولأن أسماء الله تعالى حسنى { ولله
الأسماء الحسنى فادعوه بها }[7] .
أي البالغة في الحسن غايته، فهي متضمنة لمعانٍ مشتقة
منها، وهذه المعاني بالغة في الحسن والكمال أقصاه.
فالله تعالى هو الملك، أي الذي له كمال صفات الملك، وليس لعبيده شيء من الملك.
فهو الواحد المتفرد بالملك والأمر والتدبير في كونه في
كبير أموره وصغيرها، قد خلقه من عدم، وهو وحده الذي يدبر أمره
هو سبحانه الذي يملك رزقك، ويملك صحتك، ويملك الأشياء
التي ملّكك إياها اختبارا لك.
يملك قلبك وقلوب من حولك
يملك أن ييسر لك أمورك، ويملك أن يعسرها عليه بحكمته
سبحانه
يملك أن ينزل البركات والخيرات على أقوام، ويملك أن
يرفعها عن أقوام، ويملك أن ينزل سخطه وعقابه على أقوام. هو الملك الذي له جميع
الملك..
لا تظن أن شيئا مما أعطاك إياه سبحانه ملكك، فأنت تام
الحرية في التصرف فيه (إن كان مالا، أو زوجة، أو أبناء، أو خادما، أو سيارة، أو
بيتا، أو صحة، أو صحبة، أو عِلما...) إنما أعطيت كل ذرة فيه لتختبر بها {إما
شاكرا وإما كفورا} ،
فإن شكرت عليها كما ينبغي – وهذا مبحث طويل خاص بذاته – زادك من فضله سبحانه.
{ وَإِذْ
تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ }
[8]
أما إن لم تشكره عليه كما ينبغي، أو نسبت هذه الممتلكات
لك، وتعاملت معها وكأنها جزء منك لا يمكن أن يزول عنك، أو طغيت في استعمالها في
معصيته، أو ظلمت بها الخلق، أو تبطرت عليها، أو لم تؤدي حقها... فإنها ملك الله
تعالى الذي وضعها عندك أمانة، فانتظر حين يسلبها منك في لحظة، أو ينزل عليك عذابه
جزاء تفريطك في شكره عليها سبحانه.
وَإِذْ
تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ
إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7) [9]
حينما تعلم أن ربك خالق السماوات والأرض من عدم هو الملك
وحده سبحانه، أي أن ملك جميع الأشياء كبيرها وصغيرها له وحده..
تعلم أنك عبد، مجرد عبد، أنت عبارة عن جزء من ملك هذا
الملك العظيم
تعلم أن ما أعطاك إياه في هذا الدنيا من أرزاق لتكون
سببا لحسن عبوديتك له، لم يعطك إياها لأنك أفضل من غيرك، ولا لأنك عزيز عنده، ولا
لأنه كان مضطرا أن يعطيك إياها... حاشاه الملك العظيم
إنما أعطاك إياها من خزائنه التي لا تنفذ ليختبرك بها،
فأنت في الحقيقة لا تملكها
أنت لا تملك زوجتك لتظلمها وتقسو عليها وتنقصها حقها،
ظنا منك أنها جزء من ممتلكاتك، فإذا أراد الملك أن يرفع حلمه عنك سبحانه سلبك
إياها حينما تكون أحوج ما تكون إليها.
ولا تملك أبناءك لتقسو عليهم، ولا لتهمل تربيتهم وتتركهم
للدنيا تربيهم، ولا لتلعب بهم وتتسلى عليهم وتتفاخر على غيرك بتربيتك لهم... إنما
أعطيتهم أمانة لتتعلم دينك الحق وتعلمهم إياه، حتى تنقذ نفسك وتنقذهم من النار
يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا
النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ
اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)
[10]
ولا تملك مالك حتى تبخل به على من يحتاجه، أو تصرفه في
غضب الله تعالى، أو تبذره في التفاهات، إنما هو أمانة عندك من صاحب الملك سبحانه، لينظر ماذا ستفعل به، فإن لم تنتفع
بالعلم، ولا بأقدار الله تعالى التي يربيك بها، وطغيت في سوء تعاملك مع هذا المال،
فإن الله تعالى لا يعجزه أن يحرمك منه في لحظة:
إِنَّا
بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا
مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ
رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20)
[11]
فاعلم رحمك الله تعالى، أن الله حينما يخبرك أنه الواحد
الأحد، فإن هذا يعني أنه وحده الذي له كمال الصفات التي وصف بها نفسه، لا يشاركه
فيها أحد.
فحين تعلم أنه "الملك"
أي أنه الملك وحده، وكلنا عبيد عنده، كلنا مخلوقات خلقنا من عدم ليختبرنا، فيدخل
من خضع لعبوديته ونجح في اختباره الجنة، ويدخل من تكبر عن هذا المقام وأراد أن
ينازع الله تعالى في حكمته أو ملكه أو أمره ونهيه النار.
فإذا علمت أنك عبد، وأنك لا تملك النفس الذي تتنفسه،
فالطبيعي أن يبدأ قلبك يتحرك بالخوف، والخشية، والذل، تبدأ تشعر بالعجز والرهبة،
تخاف أن يمسك نصب ونقص في هذه الدنيا، وتخاف أن لا تنجح في اختبارك فتعذب في
الآخرة...
فإذا بدأت عبودية الخوف هذه تتغلغل إلى قلبك، فاعلم أنه
لا طريق لك لتنجو من أخطار الدنيا، ولا كربات الآخرة... إلا أن تقف
"كعبد" ذليل على باب الملك مالك
السماوات والأرض، فتتذلل بين يديه، تسجد له فتعترف بضعفك وفقرك، وتعترف بشدة
تقصيرك وذنبك، وتقول له: ليس لي سواك، عاملني بصفات رحمتك أنت، فإنك إن عاملتني
بما أستحق سأهلك، ولست أنت من تردّ عن بابك سائلا..!
أقُولُ قَوْلي هَذَا وَأسْتغْفِرُ اللَّه
العَظِيمَ لي وَلَكُمْ، فَاسْتغْفِرُوهُ يَغْفِرْ لَكُمْ إِنهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.
*** *** ***
الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا، ولم يكن له
شريك في الملك، ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا.
أما بعد:
وهنا نخص طلبة العلم، الذين وصل العلم إلى عقولهم فصار
حجة عليهم، إن ظننت أنك بما أعطاك الله تعالى من علم عن دينه قد نجوت، وأنك سبقت
غيرك، وأنك أصبحت مرجعا يجب أن يرجع الناس إليه ليشعر بالفخر والزهو..!! فاخش على
نفسك، أن يسلب "الملك" منك نعمة العلم
الذي ملكك إياها اختبارا لك، لتؤدي حقها، لا لكي تتفاخر بها على غيرك، فتموت على
حال تندم عليه يوم لا ينفع الندم.
فتبصر بقلبك، وراجع مشاعرك، واعرف حجمك، فإنك عبد، قد
أعطاك الله العلم لتنقذ به نفسك وغيرك، وتشكره وحده عليه، فإن كان هذا العلم سببا
لصلاح قلبك وذلّك وصلاح جوارحك، فهذا هو الدين الذي لا يعطيه الله تعالى إلا من
أحب، أما إن كان هذا العلم سببا لتنتشي وتتكبر وتنظر للناس من علو، فاحذر أن يُسلب
منك حين تكون أحوج ما تكون إليه.
إن العبد الذي يعلم أن ربه هو وحده الملك، وأنه هو وجميع
من في الأرض مجرد عبيد عنده، لا يخشى من أحد لدرجة أن يعصي الله تعالى من أجله،
ولا يقلق على رزق فيسهر الليل وهو مهموم به، ولا يسيء الظن بربه أن يضيعه وهو
مجتهد في إصلاح قلبه وجوارحه، ولا يتحدى الله تعالى بالمجاهرة بالمعاصي
وبالاستهانة بالظلم، لأنه يعلم أن الملك حينما يشاء أن يرفع حلمه وستره عنه، فإنه
سيسلب منه أرزاقا قد يموت كمدا لسلبها.
فلنعلم أن الله هو وحده الملك، وأنك عبد، خلقت لتحقق
العبودية لهذا الملك بقلبك وجوارحك، فيدخلك بعفوه ورحمته جنة عرضها السماوات
والأرض، فيها من النعيم ما لا يخطر لك على بال، ثم تنتهي قصة الدنيا عند ذلك.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى في طريق الهجرتين:
إن حقيقة الملك: إنما تتم بالعطاء والمنع؛ والإكرام
والإهانة؛ والإثابة والعقوبة؛ والغضب والرضا؛ والتولية والعزل؛ وإعزاز من يليق به
العز، وإذلال من يليق به الذل. قال تعالى
{ قُلِ
اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ
مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ
إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ
وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ
وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ }[12]
وقال تعالى { يَسْأَلُهُ
مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } [13]
يغفر ذنبا؛ ويفرج كربا؛ ويكشف غما، وينصر مظلوماً؛ ويأخذ
ظالماً، ويفك عانيا؛ ويغني فقيراً، ويجبر كسيراً؛ ويشفي مريضاً، ويقيل عثرة؛ ويستر
عورة، ويعز ذليلاً؛ ويذل عزيزاً؛ ويعطي سائلاً، ويذهب بدولة ويأتي بأخرى؛ ويداول
الأيام بين الناس؛ ويرفع أقواماً ويضع آخرين، ويسوق المقادير التي قدرها قبل خلق
السماوات والأرض بخمسين ألف عام إلى مواقيتها؛ فلا يتقدم شيء منها عن وقته ولا
يتأخر، بل كل منها قد أحصاه كما أحصاه كتابه؛ وجرى به قلمه؛ ونفذ فيه حكمه؛ وسبق
به علمه، فهو المتصرف في الممالك كلها وحده؛ تصرف ملك قادر قاهر، عادل رحيم، تام
الملك؛ لا ينازعه في ملكه منازع؛ ولا يعارضه فيه معارض، فتصرفه في المملكة دائر
بين العدل والإحسان؛ والحكمة والمصلحة والرحمة؛ فلا يخرج تصرفه عن ذلك.
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه،
وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه، اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا
وزدنا علما، اللهم أصلح بما علمتنا قلوبنا وأعمالنا، اللهم املأ قلوبنا بتوحيدك،
وطهر قلوبنا مما لا يرضيك من الأمراض، وبصرنا بتربيتك لنا، واعف عنا، واسترنا،
وارحمنا، وعاملنا بعظيم حلمك، اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك،
وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك، اللهم ثبتنا على دينك حتى نلقاك، وأمتنا وأنت راض عنا،
نحن وجميع آبائنا وأمهاتنا وأهلينا وأحبابنا والمسلمين في كل مكان يا أرحم
الراحيم.
وأقم الصلاة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق